النقد الانطباعي في السينما (2)

فراس حمية
فراس حمية

هل المقاربة النقدية الانطباعية للفيلم يمكن أن تكون موضوعية في النقد السينمائي؟ مثلاً، كأن يعتمد التقييم على الأحاسيس أو المزاج فقط، أم أن هناك معايير خاصة ومحددة يراها الناقد وتحدد مدى جمالية العمل أم رداءته؟ وهل تستفز هذه التقييمات النقاد أم يعتبرونها أمراً عادياً لناحية تقييم العمل السينمائي؟ وكيف يحدد مدى جمالية العمل السينمائي، بمعنى ما هي المعايير المتبعة، أو المعايير العلمية الموضوعية (إن وجدت، أو إن صح القول بموضوعية النقد وعلميته)، والتي يمكن عبرها تقييم العمل بعيداً عن الانطباعية الذاتية في النقد؟

ضمن هذه المناقشات السينمائية، طرحت أربعة أسئلة مماثلة لأربعة نقاد سينمائيين بهدف الحصول على إجابات حول الواقع الحالي للنقد في السينما، وتحديداً في محاولة لفهم آليات وديناميكية النقد الانطباعي الذي برز مع بروز منصات العرض السينمائي ووسائط السوشيال ميديا. ونشير إلى أن إجابات النقاد لم يطلها التعديل أو القص والقطع ونقلت كما هي منعاً للالتباس أو التحوير. وكذلك كي نسمح لكل ناقد بالتعبير عن وجهة نظره بأسلوبه وبالقدر الكافي من المساحة. وأخيراً كي نسمح للقارئ بمتابعة التسلسل المنهجي للأفكار لكل من النقاد السينمائيين الأربعة في حديثهم الخاص مع موقع “لبنان الكبير”.

سعيد المزواري
سعيد المزواري، ناقد سينمائي من المغرب

سعيد المزواري: لا تصف الفيلم بل أن تحاول عيشه من جديد

أعتقد أن هذا النّوع من النقد كان دائماً موجوداً، ولطالما تبادل المشاهدون انطباعاتهم حول الأفلام عند الخروج من صالات السينما أو على شرفات المقاهي والحانات، بشكل غير مقيّد، وعفوية لا تنتقي ألفاظها. وجه الاختلاف اليوم هو أن وسائل التواصل الاجتماعي مدّت هذا الخطاب بـ”مكبّر صوت”، فأصبح له تأثير وجمهور، ما أثّر على شكله ومضمونه وفقاً لقاعدة ماكلوهان “الوسيلة هي الرّسالة”، فازدادت حدّته وجنوحه إلى المغالاة في الإطراء والذّم على حدّ سواء، وحتّى لجوؤه إلى توابل الكوميديا (في الذّمّ بالخصوص)، بحثاً عن تفاعل أكبر (إعجاباً وتعليقاً وتقاسماً) يتيح له انتشاراً أوسع، ولناشره نفوذاً أقوى.

الانطباع الأوّلي ضروري ومهمّ لأنّه يعبّر عن الأحاسيس التي تنتاب المتلقي أمام الفيلم، لكنّه يظلّ مجرّد عتبة أولى لعملية التلقي. ثمّة أناس تتجلّى مهنتهم في أن يذهبوا أبعد من ذلك، ويكتبوا هل كان الفيلم جيداً أم سيئاً، لماذا؟ وكيف؟ هم نقّاد السينما. ولكلّ ناقد علبة أدواته وأسلوبه في مقاربة الأفلام لتفكيك شكلها وبسط طرحها، وتحليل عناصر الخطاب السينمائي التي اعتمدها المخرج ليفرد رؤيته. لكن النّقاد الجيدين في نظري هم من تجتمع فيهم 4 مقومات تصنع الفرق: أولاً، الصّدق وتحرّي أخلاقيات المهنة اللّذان تنتفي في غيابهما أية قيمة لرأي النّاقد. الشّغف بالسينما الضروري لمتابعة جديدها وأخبارها التي لا تنقطع. الاطّلاع على تاريخ السينما عبر مشاهدة عيون الأفلام وتحليلها وقراءة أهمّ الكتب المتخصّصة (نظرية، بيوغرافية، حوارية)، والتوفّر على معارف جيدة في الأدب والفلسفة والتّشكيل والموسيقى والفنون الأخرى. موهبة الكتابة لصوغ نصّ ينبغي أن يحرص النّاقد على أن يكون في حدّ ذاته قطعة فنّية.

كنت أطّلع على التقييمات عبر السوشيال ميديا في فترة ماضية بدافع الفضول، لكنّي انقطعت لأنها نادراً ما تكون مثيرة للاهتمام، وغالباً ما تتشابه في مضمونها المعتمد أساساً على حكي قصة الفيلم وتقييم الممثّلين. قد يكون مضمونها استفزازياً أحياناً حين تفتقر إلى اللياقة وتتّسم بفجاجة اللّغة، وأحكام قيمة غبية، مثلما وقع حين قال مدوّن فرنسي شاب على “اليوتوب”: “انّ الوقت قد حان كي يأخذ جان-لوك غودار حقنة الموت الرّحيم”، فقط لأنّه شاهد فيلمه “في وداع اللّغة” ولم يرُقه. قرأت مرّة لأحدهم أن فيلم “ذا شاينينغ” أسوأ فيلم شاهده في حياته. قد أتفهّم أن لا يُعجب مشاهد بفيلم “ذا شاينينغ”، لكن يلزم الكثير من سوء النية أو البلاهة -أو كلاهما- حتى يأتي المرء برأي قاطع كهذا.

رد الفعل الطبيعي عند مشاهدة أفلام فائقة التفرّد هو الحيرة، ثم الفضول الذي لا غنى عنه من أجل البحث حول الفيلم، والرواية التي اقتبس منها، وظروف تصويره، واختيارات الإخراج، وكيف تفاعل الفيلم مع مفاتيح النوع (أفلام رعب أو دراما أو كوميديا ألخ..). هكذا يتحقق التراكم المعرفي.

عندما يقول أحدهم: “هذا أفضل فيلم شاهدته في حياتي”، فإن قيمة هذا الرّأي تعتمد على عدد الأفلام التي شاهدها من قبل، نوعية هذه الأفلام، وهل رأيه مثير للاهتمام شكلاً ومضموناً بالنظر الى المقومات التي صغتها أعلاه. المشكلة هي أن نسبة الأشخاص المثيرين للاهتمام بين من يكتبون النّقد الانطباعي اليوم قليلة جداً.

أتبنّى وصايا فرانسوا تروفو في الكتابة التي ترتكز على البحث عن مركز جاذبية الفيلم، يمكن أن يكون جملة من الحوار أو إحساساً معيّناً أو صورة بلاغية. سينتظم الباقي حول المركز وفق عناصر التحليل السينمائي التي يثيرها، فيكتسب كل شيء معنى جديداً. ثمّ في النهاية أن لا تصف الفيلم بل أن تحاول عيشه من جديد، عبر تعويض الوصف الخارجي بالالتحام مع داخل العمل. ليس غريباً في نهاية المطاف أنّ نقاداً كثيرين أصبحوا مخرجين سينمائيين، لأنّ جوهر المهمّة واحد: التوفّر على رؤية، ووجهة نظر مثيرة للاهتمام، دقّة الملاحظة، إثارة الأفكار ثم ترتيبها في قالب جمالي بديع.

إقرأ أيضا:-

  1. النقد الانطباعي في السينما (1)
  2. النقد الانطباعي في السينما (3)
  3. النقد الانطباعي في السينما (4)
شارك المقال